المقاعد المرتبطة بمقعدي تهتز بفعل حركة ساقيّ وتقبيل ركبتاي لبعضهما بسرعة. المقاعد مرتبطة أكثر من ارتباط الجالسين عليها في عيادة المصحة المدرسية. أمي تتحدث إلى باقي النساء في صالة الانتظار المشبّعة برائحة الكحول الطبي والنميمة (مخدّر للانتظار) وأنا لم أشتق إلى كساد الحوش مثل اليوم. فلم أفهم منهن إلا أن “مرت الجيران اتطّلّقت لأن أمها مصرية” ولم أسمع شيئا غير ذلك لأنّي قررت في ذاك الصباح الاستماع إلى حلقة أبطال الديجيتال فقط. هل أخبر أمي بأني زيّفت وجع بطني حتى أغيب عن المدرسة أم أسمح لهذه الكارما بإكمال عملها؟
العاقبة الأخلاقية صنعت وجعاً حقيقيا لبطني في العيادة مع أمي. وجع القلق من الفضح أمام الطبيب. لكن بعد دراسة قسم الأطفال بالمستشفى أستطيع أن أؤكد لكل المتمردين الصغار بأن وجع البطن من الصعب فضحه. بينما لا أستطيع معرفة ما إذا كان الهرب من حصة الرياضيات يستحق هذا العناء؟ لم أحسبها جيداً.
لست من المعجبين بالتذمّر من الغربة وآلامها النسبية أمام أصدقائي الذي يُعاني معظمهم من غربة محلية. فهذا النوع من المشاعر المُضلِّل لم يولد بعد إقلاع طائرة المغادرة من مطار مصراتة قبل خمس سنوات. كان قد وُلد معي. أولسنا نولد بحثا عن شيء ننتمي إليه فورا بعد قطع الحبل السرّي؟ بعضهم يجده في صفعات المؤخرة (سبب أخذك لنفسك الأول) والبعض علِمَ أنه لن يجده في صفعات الوطن وصواريخه، الصواريخ التي أدخلت بلده نشرات الأخبار وعرّفته بجغرافيا وطنه لأول مرة! -تحية إلى أهل تيجي-.
الانتماء يتطلب المعرفة. ولكن الحقيقة تلعب دور المقص أحياناً.
كمادة الجغرافيا الأصعب من مادة المجتمع في الإعدادي، المسافات تقطع الاهتمام لأن البعيد عن العين قريب من النسيان ولكن الشعور بالألم يستمر لاسلكياً، فمواقع التواصل الاجتماعي تزدحم بأبناء “الوطن” و”أبطال” الديجيتال. آنسة كورونا زوّدتنا بوقت ومزاج لتصب إحباطك في التفاعل مع من تهتم لأمرهم هناك. تحت الدخان وسقف الاقتصاد الهش ووراء الكمّامات، أولئك من تشاركهم اللعنة، من خطّطت معهم عتبات الأبواب بالطباشير في عاشوراء، وانتظرت استيقاظ المنظومة العاطلة في طوابير المصارف. تحاول التحدث بلغتهم، بتغريدهم، تحاول الاحتكاك علّه يكون الوضوء لصلاتك بالوطن. ولكن تدرك أن من شروط الاحتكاك هو خلع الكوندوم. ورصّ نفسك في صف يدّعي محاربة التقسيم وصعود الدولار ويؤمن بالمساواة والنفط! تبدو صفوفهم أقل وضوحاً بدون طباشير
كرهت الصفوف بسبب أبلة أسماء في الصف الخامس الابتدائي. وبالرغم من أن التمييز المبني على الجنس لم يكن دائم الحضور حينها، إلّا أن التمييز المبني على الدرجات كان هو الذي يأخذ الغياب والحضور أحياناً. درجاتي شبه المصكّرة كانت السبب في نقلها لي من المقعد الخلفي إلى المقعد الأمامي الذي لا أحبه، المقعد الأمامي أو مصب الأمطار الحمضية (لعاب المعلّمين)كان عريان جداً في نظري. أرادت أبلة أسماء كسر حاجز خجلي لا لسبب إلا لخوفها من “عدوى الغباء” كما وصفتها.
“سادّك تقعميز مع الفاشلين”! بنبرة ناصح وتكشيخة ثاني يوم صيام همست لي بعد انتهاء الحصة. ترمي الإهانات لمن كان أقل حظاً وترسّخ الفجوة بين النسيج التلاميذي، والفاتح أبداً. كبرت مع التمييز، أدركته في المدرسة قبل الشارع. عندما أُعاقَب لذات الفعل الذي قامت به الفتيات ولكن منحة الأنوثة لم تطلني. ضريبة القضيب لازالت تلاحقني كلما انتقدت التطرف النسوي تحت اسم ممارستي للmansplaining.
بخلاف حصة الجغرافيا التي لم أمانع فيها أمطار أستاذ محمد الحمضية حتى أحظى برؤية أوضح لخرائط القارات التي يعلقها على السبورة. وهو في مشهد مقدّم نشرة أخبار الطقس، كانت عينيّ مثبتتان على التضاريس بينما عقلي يحلق في أوديتها. لو كان السفر خطيئة، فإن مؤلف كتاب الجغرافيا هو إبليس. ونِعم التأليف! الذي يعود له الفضل في الفوز بالمسابقات الثقافية في الأسبوع المفتوح عند أسئلة عواصم الدول. هل يجب أن أشعر بتأنيب الضمير لتأخري في معرفة مدينة تيجي؟ كنت متحمّساً لما هو خارج الحدود قبل ماهو داخلها! أم أُلقي باللوم على منهج الجغرافيا؟
“عدم الانتماء هو شعور فظيع. إنه شعور غريب ومؤلم، كما لو كنت ترتدي حذاء شخص آخر”
– فيبي ستون
البحث يستمر في عيون سائقي السيارات التي تطوف حولك وأنت تقطع جزيرة الدوران على رجليك. لم أكن أعدّ كم سهماً من نظرات الدونية والشفقة تجرح عصاميّتي آنذاك كون المشي لا يحظى بصيت جيد في ليبيا. تقطع الشوارع والزناقي وأسئلة لعت من؟ من غير صغرة يا وليدي؟” التي تبدو كأنها بادرة تعارف ولكنها في الحقيقة وسيلة أخرى للتمييز.. تقطع المزيد من الأسئلة التي تقطع أملك بالانتماء. كي تطلب قهوة في المقاهي المفترض ازدحامها بالضائعين مثلك، ولكنك تعود إلى المنزل تمدح الظلام لأنه يخفيك عن أعينهم
قطعت عهداً أن أنسى ماعلمتني أبلة أسماء مع دروس الرياضيات. ولكن يبدو أني أفرطّت في النسيان والحذف حتى امتلأت سلة المهملات واستاكى الحاسوب! بل إن محاولاتي الافتراضية في تذكّر من أنا بينهم بالتغريد والإعجاب والتلقيح والسباب لم تكن إلا افتراضية في النهاية. تحاول أن تكون مثلهم ولو عبر موجات كهرومغناطيسية، ولكنهم في عالم ديجيتال لن تُقرّر الاستماع إليه.
هل تستطيع ألوان مروحة السعف ونغمات العود في أغاني محمد حسن برصف الطريق إلى الانتماء؟ الطريق غير واضحة لأننا في موسم رياح القبلي. الطريق زحمة اليوم، الطريق مغلقة بعجلات تحرق الأحلام، الطريق نبتت فيها تبّة! مع يافطة (أعمال جارية). الطريق سُرقت كما سرق العيد انتظار أذان المغرب.
عبدت الحرية منذ سماح أمي لي بالخروج من حدود البيت واللعب مع أولاد الجيران حتى أدمنت أن أكون ضائعا بالرغم من وخز حُقَن الوحدة ووجوه ممرضات المصحة المدرسية المتصلّبة. تعلّمت أن العناء موجود على أي حال. وأن مفتاح ما تبحث عنه هو الصبر على نميمة صالات الانتظار. فليس كل شيء يأتي بالحساب، ولكن بعض الأشياء تأتي بوجع في البطن. بوجع من الداخل، ولو زيّفته.
أدركت اليوم بأن المقاعد المرتبطة لازالت تهتز.
Leave a Reply