صوت غسل الأواني من المطبخ يتسلل ببطء إلى الحمّام المشبع ببخار الماء، ولم لا يكون؟ فقد استغرقت أكثر من نصف ساعة في الاستحمام بالماء الدافئ الذي اشتقت له وانتظرته طوال أيام الصيف، ومثل انتظاره.. كان لقاءاً حارّا!
ولم يؤنّبني ضميري على الإسراف.. فقد كنت أعتقد أني أستلم جائزة سنوية مجانية.. أو تافهة!
لم أخرج من الحمّام بسرعة وظللت أستمتع بالنظر إلى النافذة وضوء السماء الملبّدة بالغيوم الذي يخترق جسيمات الماء الدقيقة المتطايرة كرذاذ سحري يطوف حولي ويقبّل جدار الحمّام. أظن أن كلمة “حمّام” تعكّر سياق الكلام بطريقة ما.. ربما سأستبدلها بلفظ (بيت الراحة) التي سمعتها مرتين من عجوز بمركز لتحفيظ للقرآن الكريم عندما كنت صغيراً.. أو لن أفعل! لأسمح لنفسي بإدراك أن هذا الجمال محصور في مكان أقل ما يقال فيه أنه غير مستساغ أدبيّاً.. إدراكه فعليّا يجعلنا نؤمن أن لا وجود لمثالية في الحياة، ضبابيتها وعدم وضوحها يساعد على غض النظر عن ما يسيء إلى الصورة وعن وهمنا المريح والمؤقت، عن حمّام دافئ في أحد أيام الخريف
أفتح الباب، هواء بارد ينتهك دفء الخلوة ويبدأ من أسفل زحفاً, تستقبله رِجليّ بانقباض عضلاتها، لأن الهواء البارد أكثر كثافة، يزحف على فقاعات الأرضية المبتلّة, يفقؤها واحدة تلو الأخرى، نتيجة الفرق في درجة الحرارة بين الهواء والماء الذي يربك جزيئات ماء الفقاعات فيؤدي إلى عدم قدرتها على مقاومة هذا الزحف.. وأنا ألاحظ هذه الظاهرة باندهاش ولا أستطيع التعبير عن ذلك جهراً بقول “سبحان الله !” طالما كنت في هذه الجهة الدافئة من الباب. لا أعرف ولكن أشعر بتأنيب ضمير مسبق لهذا الفعل. أقولها سرّا لأن المتعة طالما كانت مرتبطة بالعصيان. فذكر الله على أي يعطي شيئا آخر من الاطمئنان ولو كان مؤقتا وموسميا أيضاً
أثناء لحظاتي الروحانية الفريدة تلك أحاول بيأس تشبيه تلك الظاهرة “ظاهرة زحف الهواء البارد على الفقاقيع” بشيء ما.. ولكن الضيف غير المرغوب به انتشر بسرعة وأربك سلسلة الأفكار قبل أن أغلق الباب. ولكن ما أن بدأ الزحف البارد بإزعاج دفء قدماي.. أغلقت الباب بسرعة متبعاً ذلك بنظرة سريعة للمرآة. كل ماهو أمامها ضبابي -بما فيه أنا- فتلد انعكاسا غير واضح لكل شيء وكأنّها نافذة أخرى لنفس العالم. لم أمسحها بيدي ولا برشة ماء على وجهها، فليست هي التي تحتاج إلى استيقاظ! اكتفيت بتناول المنشف وتجفيف جسدي المطلق للبخار والتساؤلات، وانتهى الاستجمام فجأة بهجوم مباشر من أصوات الراديو وأواني المطبخ في حوض حمامهن وأحاديث العائلة المتقطعة تدخل أذناي وتعكّر بخار الماء معلنة أن وقت الاسترخاء قد انتهى، وأن نوفمبر قد أعطاك هديته الموسمية لهذه السنة فاشكره وأنت ترجع المياه إلى دورتها عن أرضية الحمام بشطّافة الماء (السيّاقة).
نوفمبر 2013
Leave a Reply